فصل: تفسير الآية رقم (194):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (194):

{رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}
{رَبَّنَا وَءاتِنَا} أي بعد التوفي {مَا وَعَدتَّنَا} أي به أو إياه، والمراد بذلك الثواب {على رُسُلِكَ} إما متعلق بالوعد، أو حذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف وعلى التقديرين في الكلام مضاف محذوف والتقدير على التقدير الأول، وعدتنا على تصديق أو امتثال رسلك وهو كما يقال وعد الله تعالى الجنة على الطاعة، وعلى الثاني وعدتنا وعدًا كائنًا على ألسنة رسلك، ويجوز أن يتعلق الجار على تقدير الألسنة بالوعد أيضًا فتخف مؤنة الحذف وتعلقه بآتنا كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر.
وبعض المحققين جوز التعلق بكون مقيد هو حال من ما أي منزلا أو محمولًا {على رُسُلِكَ}. واعترضه أبو حيان بأن القاعدة أن متعلق الظرف إذا كان كونًا مقيدًا لا يجوز حذفه وإنما يحذف إذا كان كونًا مطلقًا، وأيضًا الظرف هنا حال وهو إذا وقع حالًا أو خبرًا أو صفة يتعلق بكون مطلق لا مقيد، وأجيب نع انحصار التعلق في كون مطلق بل يجوز التعلق به أو قيد، ويجوز حذفه إذا كان عليه دليل ولا يخفى متانة الجواب، وأن إنكار أبي حيان ليس بشيء إلا أن تقدير كون مقيد فيما نحن فيه تعسف مستغنى عنه.
وزعم بعضهم جواز كون {على} عنى مع، وأنه متعلق بآتنا ولا حذف لشيء أصلًا، والمراد آتنا مع رسلك وشاركهم معنا في أجرنا فإن الدال على الخير كفاعله، وفائدة طلب تشريكهم معهم أداء حقهم وتكثير فضيلهم ببركة مشاركتهم ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه، بل ولا كلام أحد من فصحاء العرب، وتكرير النداء لما مرّ غير مرة وجمع الرسل مع أن المنادى هو واحد الآحاد صلى الله عليه وسلم وحده لما أن دعوته لاسيما على منبر التوحيد، وما أجمع عليه الكل من الشرائع منطوية على دعوة الكل فتصديقه صلى الله عليه وسلم تصديق لهم عليهم السلام، وكذا الموعود على لسانه عليه الصلاة والسلام من الثواب موعود على لسانهم وإيثار الجمع على الأول لإظهار الرغبة في تيار فضل الله تعالى إذ من المعلوم أن الثواب على تصديق رسل أعظم من الثواب على تصديق رسول واحد، وعلى الثاني لإظهار كمال الثقة بإنجاز الموعود بناءًا على كثرة الشهود وتأخير هذا الدعاء بناءًا على ما ذكرنا في تفسير الموصول، ويكاد يكون مقطوعًا به ظاهر لأن الأمر أخروي. وأما إذا فسر بالنصر على الأعداء كما قيل فتأخيره عما قبله إما لأنه من باب التحلية والآخر من باب التخلية والتحلية متأخرة عن التخلية، وإما لأن الأول مما يترتب على تحققه النجاة في العقبى وعلى عدمه الهلاك فيها، والثاني ليس كذلك كما لا يخفى فيكون دونه فلهذا أخر عنه، وأيد كون المراد النصر لا الثواب الأخروي تعقيب ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} لأن طلب الثواب يغني عن هذا الدعاء لأن الثواب متى حصل كان الخزي عنهم راحل، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من الأول الدعاء بالنصر في الدنيا فإن عدم الإغناء عليه ظاهر بل في الجمع بين الدعاءين حينئذ لطافة إذ مآل الأول لا تخزنا في الدنيا بغلبة العدو علينا فكأنهم قالوا: لا تخزنا في الدنيا ولا تخزنا في الآخرة، وغايروا في التعبير فعبروا في طلب كل من الأمرين بعبارة للاختلاف بين المطلوبين أنفسهما، وأجيب بأن فائدة التعقيب على ذلك التقدير الإشارة إلى أنهم طلبوا ثوابًا كاملًا لم يتقدمه خزي ووقوع في بلاء وكأنهم لما طلبوا ما هو المتمنى الأعظم وغاية ما يرجوه الراجون في ذلك اليوم الأيْوَم، وهو الثواب التفتوا إلى طلب ما يعظم به أمره ويرتفع به في ذلك الموقف قدره وهو ترك العذاب بالمرة، وفي الجمع بين الأمرين على هذا من اللطف ما لا يخفى وأيضًا يحتمل أن يقال: إنهم طلبوا الثواب أولًا باعتبار أنه يندفع به العذاب الجسماني، ثم طلبوا دفع العذاب الروحاني بناءًا على أن الخزي الإهانة والتخجيل، فيكون في الكلام ترق من الأدنى إلى الأعلى كأنهم قالوا: ربنا ادفع عنا العذاب الجسماني وادفع عنا ما هو أشدّ منه وهو العذاب الروحاني، وإن أنت أبيت هذا وذاك وادعيت التلازم بين الثواب وترك الخزي فلنا أن نقول: إن القوم لمزيد حرصهم وفرط رغبتهم في النجاة في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال وتشيب فيه الأطفال لم يكتفوا بأحد الدعائين وإن استلزم الآخر بل جمعوا بينهما ليكون ذلك من الإلحاح والله تعالى يحب الملحين في الدعاء فهو أقرب إلى الإجابة، وقدموا الأول لأنه أوفق بما قبله صيغة ومن الناس من يؤل هذا الدعاء بأنه طلب العصمة عما يقتضي الإخزاء، وجعل ختم الأدعية ليكون ختامها مسكًا لأن المطلوب فيه أمر عظيم، والظرف متعلق بما عنده معنى ولفظًا ويجب ذلك قطعًا إن كان الكلام مؤلًا، أو كان الموصول عبارة عن النصر، ويترجح بل يكاد يجب أيضًا إذا كان الموصول عبارة عن الثواب واحتمال أنه مما تنازع فيه آتنا ولا تخزنا على ذلك التقدير هو كما ترى.
{إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} تذييل لتحقيق ما نظموا في سلك الدعاء، وقيل: متعلق بما قبل الأخير اللازم له، وإليه يشير كلام الأجهوري، والميعاد مصدر ميمي عنى الوعد، وقيده الكثير هنا بالإثابة والإجابة وهو الظاهر، وأما تفسيره بالبعث بعد الموت كما روي عن ابن عباس فصحيح لأنه ميعاد الناس للجزاء، وقد يرجع إلى الأول وترك العطف في هذه الأدعية المفتتحة بالنداء بعنوان الربوبية للإيذان باستقلال المطالب وعلو شأنها، وقد أشرنا إلى سر تكرار النداء بذلك الاسم، وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام قال مرة: يا رب فأجابه الله تعالى لبيك يا موسى فعجب موسى عليه السلام من ذلك فقال: يا رب أهذا لي خاصة؟ فقال: لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه من أحزنه أمر فقال: ربنا ربنا خمس مرات نجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: ما من عبد يقول يا رب ثلاث مرات إلا نظر الله تعالى إليه فذكر للحسن فقال: أما تقرأ القرآن {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} [آل عمران: 193] إلخ فإن قلت: إن وعد الله تعالى واجب الوقوع لاستحالة الخلف في وعده سبحانه إجماعًا فكيف طلب القوم ما هو واقع لا محالة؟ قلت أجيب بأن وعد الله تعالى لهم ليس بحسب ذواتهم بل بحسب أعمالهم، فالمقصود من الدعاء التوفيق للأعمال التي يصيرون بها أهلا لحصول الموعود، أو المقصود مجرد الاستكانة والتذلل لله تعالى بدليل قولهم: {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} وبهذا يلتئم التذييل أتم التئام، واختار هذا الجبائي وعلي بن عيسى، أو الدعاء تعبدي لقوله سبحانه: {ادعونى} [غافر: 60] فلا يضر كونه متعلقًا بواجب الوقوع، وما يستحيل خلافه، ومن ذلك {رَبّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112]، وقيل: إن الموعود به هو النصر لا غير، والقوم قد علموا ذلك لكنهم لم يوقت لهم في الوعد ليعلموه فرغبوا إلى الله تعالى في تعجيل ذلك لما فيه من السرور بالظفر، فالموعود غير مسؤول والمسؤول غير موعود، فلا إشكال وإلى هذا ذهب الطبري وقال: إن الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستبطأوا النصر على أعدائهم بعد أن وعدوا به وقالوا: لا صبر لنا على أناتك وحلمك، وقوى بما بعد من الآيات وكلام أبي القاسم البلخي يشير إلى هذا أيضًا وفيه كلام يعلم مما قدمنا، وقيل: ليس هناك دعاء حقيقة بل الكلام مخرّج مخرج المسألة والمراد منه الخبر ولا يخفى أنه عزل عن التحقيق، ويزيده وهنًا على وهن قوله سبحانه.

.تفسير الآية رقم (195):

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}
{فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} الاستجابة الإجابة، ونقل عن الفراء أن الإجابة تطلق على الجواب ولو بالرد، والاستجابة الجواب بحصول المراد لأن زيادة السين تدل عليه إذ هو لطلب الجواب، والمطلوب ما يوافق المراد لا ما يخالفه وتتعدى باللام وهو الشائع، وقد تتعدى بنفسها كما في قوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وهذا كما قال الشهاب وغيره: في التعدية إلى الداعي وأما إلى الدعاء فشائع بدون اللام مثل استجاب الله تعالى دعاءه، ولهذا قيل: إن هذا البيت على حذف مضاف أي لم يستجب دعاءه، والفاء للعطف وما بعده معطوف إما على الاستئناف المقدر في قوله سبحانه: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} [آل عمران: 191] ولا ضير في اختلافهما صيغة لما أن صيغة المستقبل هناك للدلالة على الاستمرار المناسب لمقام الدعاء، وصيغة الماضي هنا للإيذان بتحقيق الاستجابة وتقررها، ويجوز أن يكون معطوفًا على مقدر ينساق إليه الذهن أي دعوا بهذه الأدعية فاستجاب لهم إلخ، وإن قدر ذلك القول المقدر حالا فهو عطف على {يَتَفَكَّرُونَ} [آل عمران: 191] باعتبار مقارنته لما وقع حالًا من فاعله أعني قوله سبحانه: {رَبَّنَا} [آل عمران: 194] إلخ، فإن الاستجابة مترتبة على دعواتهم لا على مجرد تفكرهم، وحيث كانت من أوصافهم الجميلة المترتبة على أعمالهم بالآخرة استحقت الانتظام في سلك محاسنهم المعدودة في أثناء مدحهم وأما على كون الموصول نعتًا لأولي الألباب فلا مساغ لهذا العطف لما عرفت سابقًا. وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام. والمشهور العطف على المنساق إلى الذهن وهو المنساق إليه الذهن، وذكر الرب هنا مضافًا ما لا يخفى من اللطف. وأخرج الترمذي والحاكم وخلق كثير عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله لا أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى: {فاستجاب لَهُمْ} إلى آخر الآية، فقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا. ولعل المراد أنها نزلت تتمة لما قبلها. وأخرج ابن مردويه عنها أنها قالت: آخر آية نزلت هذه الآية: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ}.
{أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} أي بأني، وهكذا قرأ أبيّ، واختلف في تخريجه فخرجه العلامة شيخ الإسلام على أن الباء للسببية كأنه قيل: فاستجاب لهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم أي سنته السنية مستمرة على ذلك وجعل التكلم في {إِنّى} والخطاب في {مّنكُمْ} من باب الالتفات، والنكتة الخاصة فيه إظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين بشرف الخطاب والتعرض لبيان السبب لتأكيد الاستجابة، والإشعار بأن مدارها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجرد الدعاء.
وقال بعض المحققين: إنها صلة لمحذوف وقع حالًا إما من فاعل استجاب أو من الضمير المجرور في {لَهُمْ} والتقدير مخاطبًا لهم بأني، أو مخاطبين بأني إلخ، وقيل: إنها متعلقة باستجاب لأن فيها معنى القول وهو مذهب الكوفيين ويؤيد القولين أنه قرئ {إِنّى} بكسر الهمزة وفيها يتعين إرادة القول وموقعه الحال أي قائلًا إني أو مقولًا لهم إني إلخ، وتوافق القراءتين خير من تخالفهما، وهذا التوافق ظاهر على ما ذهب إليه البعض وصاحب القيل وإن اختلف فيهما شدة وضعفًا، وأما على ما ذكره العلامة فالظهور لا يكاد يظهر على أنه في نفسه غير ظاهر كما لا يخفى، وقرئ {لاَ أُضِيعُ} بالتشديد، وفي التعرض لوعد العاملين على العموم مع الرمز إلى وعيد المعرضين غاية اللطف بحال هؤلاء الداعين لاسيما وقد عبر هناك عن ترك الإثابة بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقة إذ الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها ولكن عبر بذلك تأكيدًا لأمر الإثابة حتى كأنها واجبة عليه تعالى كذا قيل والمشهور أن الإضاعة في الأصل الإهلاك ومثلها التضييع ويقال: ضاع يضيع ضيعة وضياعًا بالفتح إذا هلك، واستعملت هنا عنى الإبطال أي لا أبطل عمل عامل كائن منكم.
{مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} بيان لعامل، وتأكيد لعمومه إما على معنى شخص عامل أو على التغليب. وجوّز أن يكون بدلًا {مّنكُمْ} بدل الشيء من الشيء إذ هما لعين واحدة، وأن يكون حالا من الضمير المستكن فيه وقوله تعالى: {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} مبتدأ وخبر، و{مِنْ} إما ابتدائية بتقدير مضاف أي من أصل بعض، أو بدونه لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، وإما اتصالية والاتصال إما بحسب اتحاد الأصل، أو المراد به الاتصال في الاختلاط، أو التعاون، أو الاتحاد في الدين حتى كأن كل واحد من الآخر لما بينهما من أخوة الإسلام، والجملة مستأنفة معترضة مبينة لسبب انتظام النساء في سلك الدخول مع الرجال في الوعد. وجوز أن تكون حالًا، أو صفة.
وقوله تعالى: {فالذين هاجروا} ضرب تفصيل لما أجمل في العمل وتعداد لبعض أحاسن أفراده مع المدح والتعظيم.
وأصل المهاجرة من الهجرة وهو الترك وأكثر ما تستعمل في المهاجرة من أرض إلى أرض أي ترك الأولى للثانية مطلقًا أو للدين على ما هو الشائع في استعمال الشرع، والمتبادر في الآية هو هذا المعنى وعليه يكون قوله تعالى: {وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم} عطف تفسير مع الإشارة إلى أن تلك المهاجرة كانت عن قسر واضطرار لأن المشركين آذوهم وظلموهم حتى اضطروا إلى الخروج، ويحتمل أن يكون المراد هاجروا الشرك وتركوه وحينئذٍ يكون {وَأُخْرِجُواْ} إلخ تأسيسًا {وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِى} أي بسبب طاعتي وعبادتي وديني وذلك سبيل الله تعالى، والمراد من الإيذاء ما هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من قبل المشركين {وَقُتّلُواْ} أي الكفار في سبيل الله تعالى: {وَقُتّلُواْ} استشهدوا في القتال.
وقرأ حمزة والكسائي بالعكس، ولا إشكال فيها لأن الواو لا توجب ترتيبًا، وقدم القتل لفضله بالشهادة هذا إذا كان القتل والمقاتلة من شخص واحد، أما إذا كان المراد قتل بعض وقاتل بعض آخر ولم يضعفوا بقتل إخوانهم فاعتبار الترتيب فيها أيضًا لا يضر، وصحح هذه الإرادة أن المعنى ليس على اتصاف كل فرد من أفراد الموصول المذكور بكل واحد مما ذكر في حيز الصلة بل على اتصاف الكل بالكل في الجملة سواء كان ذلك باتصاف كل فرد من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورة أو باثنين منها، أو بأكثر فحينئذٍ يتأتى ما ذكر إما بطريق التوزيع أي منهم الذين قتلوا ومنهم الذين قاتلوا، أو بطريق حذف بعض الموصولات من البين كما هو رأي الكوفيين أي والذين قتلوا والذين قاتلوا، ويؤيد كون المعنى على اتصاف الكل بالكل في الجملة أنه لو كان المعنى على اتصاف كل فرد بالكل لكان قد أضيع عمل من اتصف بالبعض مع أن الأمر ليس كذلك، والقول بأن المراد قتلوا وقد قاتلوا فقد مضمرة، والجملة حالية مما لا ينبغي أن يخرّج عليه الكلام الجليل. وقرأ ابن كثير وابن عامر {قاتلوا} بالتشديد للتكثير.
{لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم} جواب قسم محذوف أي والله لأكفرن، والجملة القسمية خبر للمبتدأ الذي هو الموصول. وزعم ثعلب أن الجملة لا تقع خبرًا ووجهه أن الخبر له محل وجواب القسم لا محل له وهو الثاني فإما أن يقال: إن له محلًا من جهة الخبرية ولا محل له من جهة الجوابية. أو الذي لا محل له الجواب والخبر مجموع القسم وجوابه. ولا يضر كون الجملة إنشائية لتأويلها بالخبر، أو بتقدير قول كما هو معروف في أمثاله والتكفير في الأصل الستر كما أشرنا إليه فيما مر ولاقتضائه بقاء الشيء المستور وهو ليس راد فسره هنا بعض المحققين بالمحو، والمراد من محو السيئات محو آثارها من القلب، أو من ديوان الحفظة وإثبات الطاعة مكانها كما قال سبحانه: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالحا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [الفرقان: 70] والمراد من السيئات فيما نحن فيه الصغائر لأنها التي تكفر بالقربات كما نقله ابن عبد البر عن العلماء لكن بشرط اجتناب الكبائر كما حكاه ابن عطية عن جمهور أهل السنة، واستدلوا على ذلك بما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر».
وقالت المعتزلة: إن الصغائر تقع مكفرة جرد اجتناب الكبائر ولا دخل للقربات في تكفيرها، واستدلوا عليه بقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} [النساء: 31]، وحمله الجمهور على معنى نكفر عنكم سيئاتكم بحسناتكم وأوردوا على المعتزلة أنه قد ورد صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة ونحو ذلك من الأخبار كثير، فإذا كان مجرد اجتناب الكبائر مكفرًا فما الحاجة لمقاسات هذا الصوم مثلًا؟ وإنما لم تحمل السيئات على ما يعم الكبائر لأنها لابد لها من التوبة ولا تكفرها القربات أصلًا في المشهور لإجماعهم على أن التوبة فرض على الخاصة والعامة لقوله تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَ المؤمنون} [النور: 31] ويلزم من تكفير الكبائر بغيرها بطلان فرضيتها وهو خلاف النص.
وقال ابن الصلاح في «فتاويه». قد يكفر بعض القربات كالصلاة مثلًا بعض الكبائر إذا لم يكن صغيرة، وصرح النووي بأن الطاعات لا تكفر الكبائر لكن قد تخففها، وقال بعضهم: إن القربة تمحو الخطيئة سواء كانت كبيرة أو صغيرة، واستدل عليه بقوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 144] وقوله صلى الله عليه وسلم: «أتبع السيئات الحسنة تمحها» وفيه بحث إذ الحسنة في الآية والحديث عنى التوبة إن أخذت السيئة عامة. ولا يمكن على ذلك التقدير حملها على الظاهر لما أن السيئة حينئذٍ تشمل حقوق العباد، والإجماع على أن الحسنات لا تذهبها وإنما تذهبها التوبة بشروطها المعتبرة المعلومة، وأيضًا لو أخذ بعموم الحكم لترتب عليه الفساد من عدم خوف في المعاد على أن في سبب النزول ما يرشد إلى تخصيص كل من الحسنة والسيئة فقد روى الشيخان عن ابن مسعود «أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل: هذه له خاصة يا رسول الله؟ فقال: بل للناس عامة» ووجه الإرشاد إما إلى تخصيص الحسنة بالتوبة فهو أنه جاءه تائبًا وليس في الحديث ما يدل على أنه صدر منه حسنة أخرى، وإما على تخصيص السيئة بالصغيرة فلأن ما وقع منه كان كذلك لأن تقبيل الأجنبية من الصغائر كما صرحوا به، وقال بعض أهل السنة: إن الحسنة تكفر الصغيرة ما لم يصر عليها سواء فعل الكبيرة أم لا مع القول الأصح بأن التوبة من الصغيرة واجبة أيضًا ولو لم يأت بكبيرة لجواز تعذيب الله سبحانه بها خلافًا للمعتزلة، وقيل: الواجب الإتيان بالتوبة أو كفرها من الحسنة وفي المسألة كلام طويل ولعل التوبة إن شاء الله تعالى تفضي إلى إتمامه، هذا ورا يقال: إن حمل السيئات هنا على ما يعم الكبائر سائغ بناءًا على أن المهاجرة ترك الشرك وهو إنما يكون بالإسلام والإسلام يجبّ ما قبله، وحينئذٍ يعتبر في السيئات شبه التوزيع بأن يؤخذ من أنواع مدلولها مع كل وصف ما يناسبه ويكون هذا تصريحًا بوعد ما سأله الداعون من غفران الذنوب وتكفير السيئات بالخصوص بعدما وعد ذلك بالعموم، واعترض بأن هذا على ما فيه مبني على أن الإسلام يجبّ ما قبله مطلقًا وفيه خلاف، فقد قال الزركشي: إن الإسلام المقارن للندم إنما يكفر وزر الكفر لا غير، وأما غيره من المعاصي فلا يكفر إلا بتوبة عنه بخصوصه كما ذكره البيهقي، واستدل عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:
«إن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بالأول ولا بالآخر وإن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» ولو كان الإسلام يكفر سائر المعاصي لم يؤاخذ بها إذا أسلم، وأجيب بأنه مع اعتبار ما ذكر من شبه التوزيع يهون أمر الخلاف كما لا يخفى على أرباب الإنصاف فتدبر.
{ولادخلناهم جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار} إشارة إلى ما عبر عنه الداعون فيما قبل بقولهم {وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا علىرسلك} [آل عمران: 194] على أحد القولين، أو رمز إلى ما سألوه بقولهم {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 194] على القول الآخر {ثَوَابًا} مصدر مؤكد لما قبله لأن معنى الجملة لأثيبنهم بذلك فوضع ثوابًا موضع الإثابة وإن كان في الأصل اسمًا لما يثاب به كالعطاء لما يعطى، وقيل: إنه تمييز أو حال من جنات لوصفها، أو من ضمير المفعول أي مثابًا بها أو مثابين، وقيل: إنه بدل من جنات، وقال الكسائي: إنه منصوب على القطع، وقوله تعالى: {مِنْ عِندِ الله} صفة لثوابًا وهو وصف مؤكد لأن الثواب لا يكون إلا من عنده تعالى لكنه صرح به تعظيمًا للثواب وتفخيمًا لشأنه، ولا يرد أن المصدر إذا وصف كيف يكون مؤكدًا، لما تقرر في موضعه أن الوصف المؤكد لا ينافي كون المصدر مؤكدًا. وقيل: إنه متعلق بثوابًا باعتبار تأويله باسم المفعول.
وقوله سبحانه: {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} تذييل مقرر لمضمون ما قبله، والاسم الجليل مبتدأ خبره {عِندَهُ} و{حُسْنُ الثواب} مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ، أو هو مبتدأ ثان والظرف خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، والكلام مخرّج مخرج قول الرجل: عندي ما تريد يريد اختصاصه به وتملكه له، وإن لم يكن عنده فليس معنى عنده حسن الثواب أن الثواب بحضرته وبالقرب منه على ما هو حقيقة لفظ عنده، بل مثل هناك كونه بقدرته وفضله بحيث لا يقدر عليه غيره بحال الشيء يكون بحضرة أحد لا يدعيه لغيره، والاختصاص مستفاد من هذا التمثيل حتى لو لم يجعل {حُسْنُ الثواب} مبتدأ مؤخرًا كان الاختصاص بحاله، وقد أفادت الآية مزيد فضل المهاجرين ورفعة شأنهم.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ثلاثة يدخلون الجنة الفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة فتأتى بزخرفتها وزينتها فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي أدخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك ما هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول: هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب» {سلام عَلَيْكُم بما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 42].